قفزت بعض الخواطر إلى ذهني مع اقتراب بداية العام الدراسي الجديد، بعض هذه الخواطر طريف وبعضها محير وبعضها عنيف وبعضها متكرر. اخترت ثلاثة منها لأشاركها معكم. بعد حذف كل ما هو عنيف!! ومع بداية الدراسة ودخول الطلبة ومدرسيهم وآبائهم وامهاتهم وكل ما حولهم في معركة السنة الدراسية قفزت إلى نفسيتي آفة التسويف فتأخر طرح هذه التدوينة إلى هذا اليوم.
ارتبط تفكير العامة بصور كثيرة ومسلمات كثيرة لا تلبث الأيام أن تكشف خطأها .. بداية من الطفل الذكي الذي بدأ يقول بابا وماما وبعض الكلمات التي يظن معها أهله أنه أذكى أفراد العائلة، بل ربما أذكى إنسان يعيش على كوكب الأرض!! ومروراً بالتفوق المدرسي الكاذب والمضلل أحياناً فلا يكاد الطفل يحفظ فقرة أو سطراً ويتذكرها في الامتحان إلا وكتب في عداد الأذكياء والمتفوقين. وعلى الجانب الآخر كل من يجد صعوبة في التذكر أو كل من يبدى عدم اهتمام بالنظام الدراسي العتيق والغارق في فن “التلقين والتلقيم” فإنه يوصف بالغبي والفاشل. وتاكيد على ذلك تلك الورقة الكرتونية التي تتزين بالدوائر الحمراء حول كل رقم يقل عن الخمسين، وتسمى الشهادة!! ولا أدري على ماذا تشهد .. هل تشهد على ذكاء الناجح وفشل الراسب أم هل تشهد على أن الناجح قد “تعلم” والراسب “لم يتعلم”.. لا أدري فكما قلت من قبل إنه تفكير العامة. وقبل أن أذهب بعيداً في هذا الموضوع أود التنويه إلى أنني لم أكن مضطهداً ولا مقهوراً خلال سنوات الدراسة.. فقد كنت محسوباً على معسكر الأذكياء الذين يكون ترتيبهم بين الخمسة الأوائل.. ومن هذا المنطلق فإن ما أكتبه ليس إفرازاً سلبياً للمعاناة التي قاسيتها مع النظام الدراسي.
أذكر أن أحد الأصدقاء كان نداً قوياً لي في لعبة الشطرنج ومسابقات المعلومات العامة والرياضة ولكنه ليس من الأذكياء على مقياس المدرسة لسبب بسيط أسرّه إلي يوماً ونحن منهمكون في اللعب. قال لي: “أشعر بالغثيان من هذه المدرسة!!” يا ترى كيف يعالج نظامنا التعليمي ظاهرة الشعور بالغثيان داخل المدارس؟!! الجواب عند أهل الاختصاص وليس عندي.
ملاحظة: كلمة “العامة” لم أقصد بها الأميين أو الذين لا يحملون شهادات.. وإنما أقصد بها نظرة المجتمع بشكل عام بغض النظر عن المستوى التعليمي والاجتماعي لأفراده
حدث ذات يوم وفي أحد المدارس:
أخذ نفساً عميقاً بعد أن قرأ معلومة علمية جديدة في إحدى الصحف. ومرت ساعات الليل طويلة عليه حتى جاء موعد المدرسة. وقف أمام الطلاب بعد أن أنهى الدرس المقرر، نهض من مقعده بهمة ونشاط وسألهم سؤالاً عن نفس الموضوع الذي قرأه بالأمس معتقداً أن لا أحد من طلابه قادر على الإجابة، لا لشيء إلا أنه عرف المعلومة بالأمس فقط ولكنه ذُهل لسماع الإجابة من أكثر من طالب كان أبرزهم ذلك الطالب المدمن على متابعة قناة ناشيونال جيوجرافيك حيث يسمع يومياً ويشاهد إجابات علمية تتخطى مستوى المعلم المسكين.مستقبل الأديب المهندس:
بعد أن أنهى المرحلة الثانوية بشق الأنفس في القسم الأدبي وبمعدل لم يصل إلى الخمسين بالمائة، أخذ يتخبط بين فتات الفرص المتاحة لأمثاله من غير الأذكياء على مقياس التعليم المدرسي. اقترحت عليه أن يكون إداريا في إحدى المصالح الحكومية فشرح لي صعوبة ذلك لأنه يعتقد أنه غبي جداً ولا يستطيع التعامل مع الكمبيوتر والإيميل وغيرها من التقنيات. وماذا عن العمل الميداني العسكري ؟ سألته باهتمام وأجاب إجابة باهته بأنه لا يحب التعب. ياترى كيف نجد مكاناً مناسباً لذلك الشخص الذي يقر ويعترف بأنه فاشل؟!
بعد أن فقد الأمل بالحصول على الفرصة الذهبية اضطر للعمل العسكري الميداني وهناك ألحق بإدارة الاتصالات. كانت السعادة تعلو وجهه كلما عاد من ذلك العمل.. حيث أنه أحب وجوده هناك كون العمل غير روتيني وفيه الكثير من الأعمال اليدوية. قمت باستغلال الموقف وسألته بماذا حلمت قبل أن تصل إلى المرحلة الثانوية.. أجاب بسرعة: بأن أكون مهندس إلكترونيات!! الطريف أنه قرر أن يعاود إحياء الأمل في أن يصبح مهندساً رغم أنه يحمل الشهادة في المجال الأدبي. استغل فترة وجوده في أمريكا بمهمة عمل ودرس خلالها مجموعة من المواد التي أهلته للحصول على دبلوم، ثم راسل إحدى الجامعات وتم قبوله في قسم الهندسة. أخي العزيز الآن مهندس إلكترونيات رغم أنه فاشل على المقياس المدرسي!!
رأيي المتواضع أنه ليس بالضرورة أن يدرس الطالب 12 سنة ليحصل على الثانوية العامة (أو التوجيهي) ثم 4 إلى 5 سنوات للجامعة. فسرعة انتقال المعلومات وتنوعها في هذا الوقت تتيح فرصاً للتعلم الجيد وفي فترة قياسية. فما كان يصلح في القرن الماضي لن يصلح في هذا الوقت. لذلك أتمنى ان تقوم دولنا العربية بعمل خطوة إيجابية لتطوير التعليم بدل استيراد الأفكار والنظم التعليمية المعلبة في عبوات منتهية الصلاحية.